فن

السادة الأفاضل: الإمتاع والمؤانسة

الشناوي ينجز «المعادلة الصعبة»: «السادة الأفاضل» رحلة بين الكوميديا والدراما الإنسانية، تقدم تجربة جريئة وذكية، توقظ الأسئلة أكثر مما تقدم الأجوبة.

future بوستر فيلم السادة الأفاضل

كريم الشناوي: تاريخ من الجرأة والإمتاع

في تجربة جديدة وجريئة، عُرض فيلم «السادة الأفاضل» للمخرج كريم الشناوي ضمن عروض مهرجان الجونة السينمائي، في لافتة ذكية من القائمين على المهرجان الذين حرصوا على وجود فيلم تجاري داخل جدول العروض بهدف جذب الجماهير وزيادة حماس المتابعين.

يدخل الشناوي هذه التجربة وفي رصيده فيلمان سابقان هما «عيار ناري» (2018) و«ضي: سيرة أهل الضي» الذي عرض هذا العام أيضًا. وبين الفيلمين قدم الشناوي مجموعةً من الأعمال الدرامية الجريئة التي أثارت نقاشات واسعة عند عرضها، مؤكدًا أنه واحد من المخرجين القلائل القادرين على المزاوجة بين الوعي الفني والجرأة الفكرية في قالب يلاقي استحسان الجمهور.

منذ بدايته مع «عيار ناري»، قدم الشناوي نغمة مختلفة في السينما المصرية. يدور الفيلم حول مظاهرة دامية يعثر في أعقابها على جثة مجهولة برصاصة في الرأس، ويتابع الطبيب الشرعي ياسين (أحمد الفيشاوي) رحلته لكشف لغز الجريمة بمساعدة الصحفية مي (روبي).

يكتشف ياسين أن الرصاصة لا تتطابق مع أي سلاح من موقع الأحداث، ما يفتح الباب أمام شكوك حول حقيقة ما جرى. ومع تصاعد البحث، تتشابك الخيوط بين الحقيقة والوهم، لينتهي الفيلم بسؤال فلسفي مفتوح: هل نعرف الحقيقة فعلًا، أم أننا نعيش داخل روايات يصنعها الآخرون؟

شكل «عيار ناري» نقطة تحول في مسيرة كريم الشناوي؛ إذ قدم من خلاله تحقيقًا بوليسيًا مشبعًا بأسئلة فلسفية عن الشك والتلاعب بالإعلام، وأثبت امتلاكه حسًّا بصريًا متميزًا وقدرة على إدارة ممثليه وحثهم على تقديم أفضل أداء ممكن. ومنذ ذلك الحين، أصبح اسمه مرتبطًا بالأعمال التي تطرق مناطق غير مأهولة في الدراما والسينما المصرية، يجمع فيها بين الفن والمتعة.

أما فيلمه الأخير «السادة الأفاضل»، الذي عرض في مهرجان الجونة، فهو امتداد لتلك المسيرة الجريئة؛ إذ يحقق فيه الشناوي «المعادلة الصعبة»: فيلم متماسك فنيًا يقدم تجربة مشاهدة ممتعة في آنٍ واحد، يجمع بين الكوميديا العبثية والدراما الإنسانية في بناءٍ سردي متين.

السادة الأفاضل: المعادلة الصعبة

تدور أحداث الفيلم في قرية مصرية حول أسرة «أبو الفضل»، التي تنقلب حياتها رأسًا على عقب بعد وفاة الأب «جلال». يترك الأب وراءه سلسلةً من الأسرار التي تتكشف تباعًا أمام أبنائه: طارق، الابن الأكبر الذي يُرغم على تحمل المسؤولية في مواجهة تهديدات غامضة تطال العائلة، وحجازي، الابن الأصغر المستقر في القاهرة بعيدًا عنها. ومن خلال هذه الخطوط، تتصاعد الأحداث كمتاهةٍ من الورطات والمفارقات التي تكشف عن ماضٍ خفي وأسرارٍ دفينة، لتصنع سردًا عبثيًا يتأرجح بين الجد والسخرية.

كوميديا جادة

رغم أن الفيلم في ظاهره كوميدي، فإنه مصنوع بجدية وحرفية عالية. السيناريو المحكم الذي اشترك في كتابته مصطفى صقر (صاحب مسلسل «الكبير»)، ومحمد عز الدين، وعبد الرحمن جاويش، جاء متماسكًا ومتوازنًا رغم تعدد الأصوات الكاتبة، ما يؤكد أن الكوميديا ليست مرادفًا للاستخفاف؛ بل يمكن تقديم حكاية درامية متماسكة في ثوب كوميدي لطيف.

يتميز الفيلم بإنتاج كوميديا من الحدث لا من النكتة؛ فالمفارقات والورطات هي التي تولد الضحك، لا الحوار اللفظي أو الإفيهات المعتادة. وهو ما يجعله مختلفًا عن كثير من الأفلام الكوميدية المصرية الحديثة التي سقطت في فخ التهريج والإسفاف.

كذلك يقدم العمل توثيقًا واقعيًا نادرًا لحياة الريف المصري؛ فالعادات والأزياء والبيوت واللهجة عناصر صيغت بعناية لتصوير البيئة الريفية بدقة واحترام. ويبدو أن خبرة مصطفى صقر في الكتابة من خلال مسلسل «الكبير»، وارتباط جاويش بجذوره الريفية، أضفيا على العمل صدقًا ملموسًا، فجاءت المشاهد تحمل روح المكان دون مبالغة أو تزويق.

ويبرز تميز المخرج كريم الشناوي في إدارة الممثلين؛ إذ قدم كلٌّ من طه الدسوقي وعلي صبحي وأشرف عبد الباقي ومحمد ممدوح أداءً متوازنًا بين الجدية والكوميديا دون انزلاق نحو المبالغة أو الأداء المسرحي. هذه التوليفة من الأسماء أضافت للفيلم طاقة تمثيلية هائلة جعلت من كل مشهد لوحةً درامية نابضة بالحياة.

يتولى بطولة العمل باقة من النجوم الكبار يصطفون إلى جانب بعضهم في تناغم واضح: طه الدسوقي، وعلي صبحي الذي يقدم في كل مرة شخصيةً أكثر نضجًا وعمقًا من سابقتها، والأستاذ أشرف عبد الباقي، ومحمد ممدوح، وشاهين، وأحمد السعدني، وهنادي مهنا، وانتصار، إضافةً إلى ميشيل ميلاد، الموهبة الصاعدة بقوة التي تبشر بميلاد جيل جديد من الممثلين الشباب.

ما وراء الضحك

ورغم أننا لا نطالب الفيلم الكوميدي في العادة بشيءٍ أبعد من الإضحاك، فإن إحدى نقاط قوة هذا العمل أنه لا يقف عند ذلك الحد. لم يكتفِ بأن تكون الكوميديا في ثوب حكايةٍ متماسكة يرتبط بها المشاهد وشخصياتٍ قوية يتعلق بها سريعًا. في «السادة الأفاضل» طرحٌ خفيّ خلف الحكاية المضحكة؛ تصوّر مقدم بشكلٍ عبثي يظل متماسكًا لا يفقد بريقه. يضعنا كريم الشناوي أمام تصوّرٍ لعالمٍ بلا أخلاق ولا قيم، حيث المصلحة هي الغاية الأساسية التي تقود الشخصيات دون تقيد بالوسائل؛ فكل شيء مباح: الأخ يسرق شقيقه، والصديق يخون صديقه. نحن أمام عالمٍ بلا قيم، يبحث فيه كل شخصٍ عن النفع الشخصي غير مبالٍ بالآخر.

لا يسعى الفيلم إلى بناء عالم خيالي بقدر ما يعكس واقعًا نعرفه جيدًا، لكنه يقدمه في صورةٍ أكثر فجاجة؛ كأنما يضع أمامنا مرآةً مشوهة تكشف الحقيقة بقدر ما تبالغ فيها. تتحرك الشخصيات في هذا العالم بدوافعها الصغيرة، دون وعيٍ بالكل الأكبر، فيتحول الجمع إلى فوضى منظمة يحاول كل طرفٍ فيها النجاة بأي ثمن. لا بطل في «السادة الأفاضل» بمعناه التقليدي؛ لأن الجميع متورط بشكلٍ أو بآخر، والجميع يضحك بينما ينهار كل شيءٍ من حوله.

ختامًا

يمكن القول إن كريم الشناوي في «السادة الأفاضل» يواصل مغامرته السينمائية بشجاعة ووعي، مقدّمًا كوميديا جادة تعيد الثقة إلى هذا اللون الغائب عن السينما المصرية منذ سنوات. فيلمه ليس مجرد محاولة للضحك، بل تجربة متكاملة تعيد طرح أسئلة حول الأسرة والسلطة والماضي، من خلال قالب ساخر ممتع بصريًا ومضمونيًا. وبهذا الفيلم، يثبت الشناوي أنه من المخرجين القادرين على تحقيق التوازن بين الفن والتجارة، بين الجمال والجرأة، وبين المتعة والتفكير. إنه أحد الأصوات التي تعيد للسينما المصرية نبضها الحقيقي: سينما تحقق «المعادلة الصعبة».

# سينما مصرية # مهرجان الجونة # فن

«الحياة بعد سهام»: حين تصير الذاكرة مونتاجًا للحب والغياب
كولونيا: رائحة الماضي
مهرجان الجونة- «مجرد حادث» لجعفر بناهي.. لغز السعفة الذهبية

فن